فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم، بين أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد فقال: {وَقَضَيْنَا إلى بني إسرائيل في الكتاب لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12] وقول الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود

فقوله: {وَقَضَيْنَا} أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم.
ولفظ {إلى} صلة للإيحاء، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا.
وقوله: {لَتُفْسِدُنَّ} يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله: {فِى الأرض} يعني أرض مصر وقوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيمًا، لأنه يقال لكل متجبر: قد علا وتعظم، ثم قال: {فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما} يعني أولى المرتين: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمعنى: أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قومًا أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى: {وَحِينَ البأس} [البقرة: 177] ومعنى {بعثنا عليكم} أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم؟ قيل: إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفًا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكًا آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ}.
والقول الثاني: إن المراد من قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا} أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث: إن قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقوامًا قتلوهم وأفنوهم.
ثم قال تعالى: {فَجَاسُواْ خلال الديار} قال الليث: الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة: طلبوا من فيها.
وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا.
وقال الزجاج: طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه.
قال الواحدي: الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزمًا حتمًا لا يقبل النقض والنسخ، ثم قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم: {وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا} النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] وقوله: {انفروا خِفَافًا} [التوبة: 41].
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: {وَقَضَيْنَا إلى بني إسرائيل في الكتاب لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرًا جزمًا لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه.
ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال: {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا}.
إذا ثبت هذا فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبًا وانقلاب حكمه الجازم باطلًا، وانقلاب علمه الحق جهلًا، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالًا، فكان إقدامهم عليه واجبًا ضروريًا لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا: إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثاني:
في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملًا على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة.
ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: المراد من {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر.
والثاني: أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم.
وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى.
والجواب الثاني أيضًا ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب}.
معنى قضينا ها هنا: أخبرنا.
ويحتمل وجهًا ثانيًا: أن معناه حكمنا، قاله قتادة.
ومعنى قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} أي قضينا عليهم.
{لتفسدن في الأرض مرتين} الفاسد الذي فعلوه قتلهم للناس ظلمًا وتغلبهم على أموالهم قهرًا، وإخراب ديارهم بغيًا. وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان:
أحدهما: أنه زكريا قاله ابن عباس.
الثاني: أنه شعيًا، قاله ابن إسحاق، وأن زكريا مات حتف أنفه.
أما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فيحيى بن زكريا في قول الجميع قال مقاتل: وإن كان بينهما مائتا سنة وعشر.
{فإذا جاء وعْد أولاهما} يعني أولى المرتين من فسادهم.
{بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} في قوله بعثنا وجهان:
أحدهما: خلينا بينكم وبينهم خذلانًا لكم بظلمكم، قاله الحسن.
الثاني: أمرنا بقتالكم انتقامًا منكم.
وفي المبعوث عليهم في هذه المرة الأولى خمسة أقاويل:
أحدها: جالوت وكان ملكهم طالوت إلى أن قتله داود عليه السلام، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: أنه بختنصر، وهو قول سعيد بن المسيب.
الثالث: أنه سنحاريب، قاله سعيد بن جبير.
الرابع: أنهم العمالقة وكانوا كفارًا، قاله الحسن.
الخامس: أنهم كانوا قومًا من أهل فارس يتجسسون أخبارهم، وهو قول مجاهد.
{... فجاسوا خلال الديار} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: يعني مشوا وترددوا بين الدور والمساكن، قال ابن عباس وهو أبلغ في القهر.
الثاني: معناه فداسوا خلال الديار، ومنه قول الشاعر:
إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ

الثالث: معناه فقتولهم بين الدور والمساكن، ومنه قول حسان بن ثابت:
ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ** فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر

الرابع: معناه فتشوا وطلبوا خلال الديار، قاله أبو عبيدة.
الخامس: معناه نزلوا خلال الديار، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر:
فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً ** وأبنا بساداتهم موثَقينا

قوله عز وجل: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} يعني الظفر بهم، وفي كيفية ذلك ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن بني إسرائيل غزوا ملك بابل واستنقذوا ما فيه يديه من الأسرى والأموال. الثاني: أن ملك بابل أطلق من في يده من الأسرى، وردّ ما في يده من الأموال.
الثالث: أنه كان بقتل جالوت حين قتله داود.
{وأمددناكم بأموالٍ وبنين} بتجديد النعمة عليهم.
{وجعلناكم أكثر نفيرًا} فيه وجهان:
أحدهما: أكثر عزًا وجاهًا منهم.
الثاني: أكثر عددًا، وكثرة العدد تنفر عدوهم منهم، قال تُبع بن بكر:
فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ ** وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيرًا

قال قتادة: فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين، وبعث فيهم أنبياء. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} الآية، قال الطبري: معنى {قضينا} فرغنا وحكي عن غيره أنه قال: {قضينا} هنا بمعنى أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا {قضينا} معناه في أم الكتاب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: وإنما يلبس في هذا المكان تعدية {قضينا} بـ {إلى}، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى. فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعًا في إيجاز، جعل {قضينا} دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال {قضينا إلى بني إسرائيل} معناه أعلمناهم، وقال مرة: معناه قضينا عليهم. و{الكتاب} هنا التوراة لأن القسم في قوله: {لتفسدن} غير متوجه مع أن يجعل {الكتاب} هو اللوح المحفوظ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي: {في الكتب} على الجمع، قال أبو حاتم: قراءة الناس على الإفراد، وقرأ الجمهور: {لتُفسِدن} بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي: {لَتفسُدُن} بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد: {لتُفسَدُن} بضم التاء وفتح السين وضم الدال. وقوله: {ولتعلن} أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحًا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل: كان بين المرتين آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين ملكًا مؤبدًا بأنبياء وقيل سبعون سنة.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ}
الضمير في قوله: {أولاهما} عائد على قوله: {مرتين} [الإسراء: 4] وعبر عن الشر بـ الوعد لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجيء الوعد مطلقًا فجائز أن يقع في الشر، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن: {عبيدًا}، واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافًا شديدًا متباعدًا عيونه: أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، وكذا قال ابن إسحاق وابن جبير، وقال ابن عباس: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخرًا ملك اسمه خردوس، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء، وقيل غزاهم أولًا صنحابين ملك رومة، وقيل بختنصر، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك الملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء، وصورة قتله: أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك تمني علي ما أردت، فقولي رأس يحيى بن زكرياء: ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفًا، هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة: أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمدًا صلى الله عليه وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشارًا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصًا، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم: ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرًا هو سابور ذو الأكناف، وقال أيضًا ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران، وآخر، وقال مجاهد: إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس فجاس خلال الديار وتغلب ولكن لم يكن قتال، ولا قتل في بني إسرائيل، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر، وقوله عز وجل: {فجاسوا خلال الديار} وهي المنازل والمساكن.
وقوله تعالى: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأول غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال، وقد قال مؤرج، جاسوا خلال الأزقة، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصًا طويلًا منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها، وقوله: {بعثنا} يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولًا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاه وقرأ الناس: {فجاسوا} بالجيم، وقرأ أبو السمال: {فحاسوا} بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرًا ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال إنما القراءة: {جاسوا} بالجيم فقال: {جاسوا وحاسوا} واحد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: {خلال}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {خللَ} ونصبه في الوجهين على الظرف، وقوله: {ثم رددنا لكم الكرة}، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة وجعل {رددنا} موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم، قال قتادة: كانوا {أكثر نفيرًا} في زمن داود عليه السلام، ونفير يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلًا بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافرًا.
قال القاضي أبو محمد: وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي نفر سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري: [المتقارب]
فأكرم بقحطان من والد ** وحمير أكرم بقوم نفيرا

وقالوا: لا في العير ولا في النفير، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله: {إن أحسنتم}. اهـ.